الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ}.رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: الَّذِي يَتْبَعُك لِيُصِيبَ مِنْ طَعَامِك وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ.وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْعِنِّينُ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ: هُوَ الْأَبْلَهُ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ.وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يُعِدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ: لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا، لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ، فَحَجَبُوهُ.وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَوْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ: «لَا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هاهنا لَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ».فَأَبَاحَ النَّبِيُّ دُخُولَ الْمُخَنَّثِ عَلَيْهِنَّ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَأَوْصَافَهُنَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَحَجَبَهُ.وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ مَا هُنَّ مِنْ الصِّغَرِ.وَقَالَ قَتَادَةَ: الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لِصِغَرِهِمْ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطِّفْلَ الَّذِي قَدْ عَرَفَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} وَأَرَادَ بِهِ الَّذِي عَرَفَ ذَلِكَ وَاطَّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَاَلَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِئْذَانِ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»، فَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفْرِقَةِ قَبْلَ الْعَشْرِ وَأَمَرَ بِهَا فِي الْعَشْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ وَلَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ.وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} رَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هُوَ الْخَلْخَالُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّمَا نُهِيت أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ صَوْتُ الْخَلْخَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ النَّهْيُ عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِي النَّهْيِ عَنْ إسْمَاعِ صَوْتِهَا؛ إذْ كَانَ إظْهَارُ الزِّينَةِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ الزِّينَةُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِأَخْفَى الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِأَظْهَرِهِمَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِهَا، وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَعَانِي تَارَةً جَلِيَّةً بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَيْهَا وَتَارَةً خَفِيَّةً يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِأُصُولٍ أُخَرَ سِوَاهَا.وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ رَفْعِ صَوْتِهَا بِالْكَلَامِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَجَانِبُ؛ إذْ كَانَ صَوْتُهَا أَقْرَبَ إلَى الْفِتْنَةِ مِنْ صَوْتِ خَلْخَالِهَا؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا أَذَانَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى حَظْرِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا لِلشَّهْوَةِ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى الرِّيبَةِ وَأَوْلَى بِالْفِتْنَةِ. اهـ.
.قال ابن العربي: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا} يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فَأَدْخَلَ حَرْفَ {مِنْ} الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَكَرَ {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} مُطْلَقًا.وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ الْحَرَامِ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ، فَقَالَ: مِنْ أَبْصَارِهِمْ.الثَّانِي: أَنَّ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ.الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ، فَإِنَّ سَتْرَهُ وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ؛ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجِك، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك».فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: «إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ».قُلْت: فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا؟ قَالَ: «اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ».وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا.وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ، وَإِيضَاحُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}: يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ فِي الطَّاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك» وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ لِأَحْوَالِهِ.وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ: وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَقَالُوا: مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَجَمَالِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى} يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَتَطَأْطَأَ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مِنْ خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ.وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي؟ فَقَالَ لَهَا: أَعْجَبَتْنِي عَيْنَاكِ.فَقَالَتْ: الْبَثْ قَلِيلًا، فَدَخَلَتْ دَارَهَا، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ، وَقَالَتْ لَهُ: خُذْ مَا أَعْجَبَك، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ النَّاسَ مِنِّي.قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْإِنَاثَ بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ أَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ؛ وَخَصَّ النِّسَاءَ فِيهِ بِالذِّكْرِ عَلَى الرِّجَالِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا يُسَمَّى زِنًا.فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ إذَا كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ؛ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».وَكَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّ عَلَاقَتَهُ بِهَا كَعَلَاقَتِهَا بِهِ، وَقَصْدُهُ مِنْهَا كَقَصْدِهَا مِنْهُ.وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْت أَنَا وَعَائِشَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ لَنَا: «احْتَجِبْنَ مِنْهُ» فَقُلْنَا: أَوَلَيْسَ أَعْمَى؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا».فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، فَقَالَ لَهَا: «تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك عِنْدَهُ».قُلْنَا: قَدْ أَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّرْحِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَسَتَرَوْنَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ انْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، إذْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَالرَّائِي لَهَا، وَفِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَكَانَ إمْسَاكُ بَصَرِهَا عَنْهُ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى؛ فَرَخَّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ.فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ، وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِ مَحَالِّهَا فِي الرَّأْسِ، وَوَضْعِهَا وَاحِدًا مَعَ آخَرَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْبَدِيعِ.وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا بِالتَّصَنُّعِ: كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ.وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يَعْنِي الثِّيَابَ.وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اعْلَمُوا عَرَّفَكُمْ اللَّهُ الْحَقَائِقَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْتَضِي أَحَدُهَا الْآخَرَ، وَهُوَ الْبَاطِنُ هَاهُنَا، كَالْأَوَّلِ مَعَ الْآخَرِ، وَالْقَدِيمِ مَعَ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا وَصَفَ الزِّينَةَ بِأَنَّ مِنْهَا ظَاهِرًا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ بَاطِنًا.وَاخْتُلِفَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الثِّيَابُ يَعْنِي أَنَّهَا يَظْهَرُ مِنْهَا ثِيَابُهَا خَاصَّةً؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.الثَّانِي: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ.الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ.وَهُوَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بِمَعْنًى، لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالْخَاتَمَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَرَى الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ هِيَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ يَقُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُحْلٌ أَوْ خَاتَمٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَجَبَ سَتْرُهَا، وَكَانَتْ مِنْ الْبَاطِنَةِ.فَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالدُّمْلُجِ وَالْخَلْخَالِ وَغَيْرِهِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْخِضَابُ لَيْسَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ.وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّوَارِ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْكَفَّيْنِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الذِّرَاعِ.وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هِيَ الَّتِي فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَإِنَّهَا الَّتِي تَظْهَرُ فِي الصَّلَاةِ.وَفِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةً، وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ عَادَةً.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: الْجَيْبُ: هُوَ الطَّوْقُ وَالْخِمَارُ: هِيَ الْمِقْنَعَةُ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا نَزَلَ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا: شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، كَأَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهَا مِرْطٌ شَقَّتْ مِرْطَهَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهَا إزَارٌ شَقَّتْ إزَارَهَا.
|